09/23/2025 | Press release | Distributed by Public on 09/23/2025 08:33
هل تستطيع الأمم المتنازعة أن تعمل معا من أجل الصالح العام؟ في ظل الأوضاع الراهنة التي يعيشها النظام العالمي، يغدو الشعور باليأس حيال مستقبل التعاون الدولي أمرا طبيعيا. فالتنافسية السياسية-الجغرافية تنهك النظام متعدد الأطراف الذي ساعد في الحفاظ على الاستقرار العالمي منذ نهاية الحرب الباردة. وتبدو القوى العظمى عاجزة عن التوافق على كيفية حل القضايا العالمية الملحة، بداية من أزمة المناخ إلى إدارة المنافسة الاقتصادية والتجارة الدولية، وصولا إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي.
وبطبيعة الحال، لا تعزز التنافسية السياسية-الجغرافية التعاون الدولي. وقد أوضح المؤرخ الاقتصادي تشارلز كيندلبيرغر أن غياب القيادة العالمية والتعاون الدولي ساهم في إطالة أمد الكساد الكبير. وعلى النقيض من ذلك، أدت التنافسية السياسية الجغرافية في أحيان أخرى إلى توسيع رقعة التعاون الدولي. فأثناء الحرب الباردة على سبيل المثال، عمل الرئيسان دوايت أيزنهاور وجون كينيدي على تعزيز الدور القيادي للولايات المتحدة في الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة والسلع العامة العالمية الأخرى في مواجهة المد الشيوعي.
أما اليوم، فإن العمل متعدد الأطراف في سبيله للتداعي- لا بسبب التنافسية السياسية-الجغرافية وحدها - وإنما لأنه سلعة عامة عالمية باهظة الكلفة: يستفيد منها الجميع، لكن أعباءها لا تتوزع على الأمم بالعدل.
ومع ذلك، حتى في ظل الاستقطاب الذي يشهده العالم اليوم، لا يزال بإمكان الخصوم على الساحة السياسية-الجغرافية الاتفاق على الأهداف المشتركة - إذ ينبغي أن يتسع الكوكب للبشر، وينبغي السيطرة على الجائحة القادمة وتطويقها من خلال إجراءات وقائية رشيدة في مجال الصحة العامة، كما ينبغي أن تحقق السياسة الاقتصادية العالمية الرخاء للجميع. ولكن الأمم قد تختلف حول كيفية بلوغ هذه الأهداف - فتذهب إلى أن منهجا ما أو غيره قد يفيد خصما على حساب آخر دون وجه حق - أو قد تتهم آخرين بالاستغلال لعدم مساهمتهم في حل القضايا المشتركة.
فعلى سبيل المثال، أخذ الكربون في التراكم عبر الغلاف الجوي طيلة قرون. فكيف نوزع عبء معالجة تغير المناخ بين مصادر الانبعاثات السابقة والحالية؟ أو كيف يُفترض بنا تقاسم مسؤولية ضمان الاستقرار المالي واستعادة النمو العالمي؟ فقد يكرس أحد الاقتصادات المتقدمة موارد هائلة لضمان النمو والاستقرار، بينما تخفق اقتصادات أخرى في التصرف بحكمة.
إذا كانت القوى العظمى ترفض مساندة النظام الدولي، فهل بوسع قوى أخرى أن تحل محلها؟ في الواقع، ينطوي توفير السلع العامة العالمية على تكلفة باهظة، والاقتصادات الصغيرة الفقيرة لا تملك الموارد الضرورية لتسيير دوريات بحرية لحماية الممرات الملاحية للتجارة الدولية، أو لضخ التريليونات في شرايين الاقتصاد العالمي عند انهيار الأسواق. أما القوى الوسطى - بما تملكه من ذخيرة مالية واقتصادية كافية - فقد يكون في استطاعتها الاضطلاع بدور القوى العظمى. وواقع الأمر أن القوى الوسطى التي تنأى بنفسها عن المواجهات التنافسية الكبرى وتلتزم بنظام قائم على القواعد تؤدي بالفعل دورا متنامي التأثير.
وفي ظل غياب الولايات المتحدة عن مواصلة دورها القيادي، برزت بالفعل مجموعة من اتفاقات التجارة الحرة القائمة على القواعد، منها على سبيل المثال اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، وهو اتفاق التجارة الحرة بين 12 عضوا الصادر في أعقاب اتفاق شراكة المحيط الهادئ الذي امتنعت الولايات المتحدة عن إقراره. ولعل انضمام المملكة المتحدة إلى الاتفاق الجديد، وهي ليست من بلدان المحيط الهادئ، دليلٌ على تفضيل الاقتصادات المفتوحة للاتفاقات الواضحة القائمة على القواعد.
ومقارنة بالدول الصغيرة، تستطيع القوى الوسطى توفير السلع العامة العالمية بسهولة أكبر. ولكنها على الأرجح، شأنها شأن القوى العظمى، قد تحيد عن هذا الدور حين تتضاءل الحوافز، أو ربما تنصرف عن العمل متعدد الأطراف إن لم تجد فيه نفعا خالصا. فدعمها للعمل متعدد الأطراف يظل مرهونا باتساقه مع مصالحها الذاتية. وبعبارة أخرى، لا بد أن تكون أفعالها على قدر ما تجنيه من حوافز.
وإذا كان للنظام الدولي أن يصمد، فإنه بحاجة إلى أكثر من مجرد قوى عظمى أو وسطى تقوده. فلا بد أن يحل مفهوم توافق الأفعال والحوافز محل فكرة أهمية الحجم، وهو ما يزيد من تعزيز قدرة النظام الدولي على الصمود أكثر من الاعتماد على عقود التعاون الصريحة. ويجب على جميع الأمم أن تساهم على نحو يحقق مكاسب واضحة للجميع. ولكن كيف يتسنى ذلك في غياب حسن النوايا أو التوافق بين الأطراف الرئيسية؟ أقترح ثلاثة مسارات.
أولا، على صناع السياسات السعي نحو فرص التعاون غير المقصود. والتعاون بطبيعته ينشأ حين تتفق البلدان على حل مشترك لقضية ما وتضع بنودا صريحة للتعاون. أما التعاون غير المقصود، فيعني أن تتعاون البلدان حتى في أوقات الخلاف، أي أن تفعل الصواب حتى لو كان الدافع غير صائب.
ويبرز التعاون غير المقصود بوضوح حين توجد آثار موجبة عابرة للحدود يمكن للبلدان الاستفادة منها. فأثناء جائحة كوفيد، تسابقت البلدان لإيجاد لقاح. وتسارعت وتيرة تطوير اللقاح بفضل مزيج من تكنولوجيا "الحمض النووي الريبي المرسال" (mRNA) والمنافسة بين الشركات في مختلف البلدان. ورغم أن كل طرف استفاد مما اكتشفه الآخرون، أسفرت المنافسة عن لقاحات انتفع بها الجميع.
ولننظر إلى التحول في مصادر الطاقة. فإذا اعتبر بلد ما أن منافسا له يدعم إنتاج سياراته الكهربائية للحصول على ميزة غير عادلة، فيمكنه دعم إنتاجه الذاتي بدلا من فرض التعريفات الجمركية على خصمه. ومثل هذا الدعم يمثل هجوما مضادا على المنافس، ولكنه يعني في الوقت نفسه توفير المزيد من السيارات التي تعمل بالطاقة النظيفة بأسعار في المتناول، مما يساهم في خفض انبعاثات الكربون. وتصب هذه النتيجة في الصالح العام، رغم أن دوافع الجميع بعيدة عن الصواب.
ثانيا، ينبغي لصناع السياسات في الدول الأصغر أن يسعوا إلى دفع النظام الدولي خارج دائرة الجمود. فمعضلة السجين تنشأ حينما يسعى كل بلد وراء مصلحته الذاتية؛ إذ يبدو سلوكه مثاليا من منظور فردي، ولكن هذه السلوكيات مجتمعة تفضي إلى دمار متبادل من منظور جماعي. ولن يتسنى لأي بلد الإفلات من هذه المعضلة: فإذا حاول ذلك منفردا، سيستغل الآخرون الفرصة. وحينما تجد القوى العظمى نفسها في هذه الورطة، فإن دَفعة صغيرة قد تكفي لحملها على تغيير مسارها والسعي نحو نتائج يتوافق عليها الجميع.
فمثلا، غالبا ما تتردد الاقتصادات المتقدمة في منح الاقتصادات الصاعدة فرصة أكبر للنفاذ إلى أسواقها، وتلجأ عوضا عن ذلك إلى فرض حواجز تجارية تحرم الاقتصادات النامية من فرص تنمية ثرواتها. ويؤدي ذلك بدوره إلى زيادة الهجرة الخارجة، وإشعال فتيل التوترات السياسية على جميع الأصعدة. أما إذا استطاعت الاقتصادات النامية أن تقنع الاقتصادات المتقدمة بالعمل الجماعي، سيصبح تحرير التجارة أقل ضررا، إذ تتوزع الواردات عبر الاقتصادات المتقدمة، كما يساهم ارتفاع مستويات الدخل بالاقتصادات النامية في تقليص دوافع الهجرة. وهكذا، فمن شأن تلك الدفعة أن تساعد القوى العظمى والوسطى على فعل ما تريده ولكنها لا تفعله خشية الخسارة لصالح الخصوم.
ثالثا، على صناع السياسات الدفع في اتجاه العمل التعددي الرائد. فحينما تتخلى بعض الدول عن العمل متعدد الأطراف، يظل بإمكان مجموعات فرعية من البلدان الراغبة أن تعمل معا. ويتيح ترتيب التحكيم الاستئنافي المؤقت متعدد الأطراف الذي وضعته منظمة التجارة العالمية إطارا مستقلا لتقديم التماسات حل النزاعات التجارية في حالة عدم تمكن هيئة الاستئناف الرئيسية من الاضطلاع بمهامها بسبب عدم اكتمال النصاب. ومنذ عام 2020، ازداد عدد أعضاء ترتيب التحكيم الاستئنافي المؤقت متعدد الأطراف بثلاثة أضعاف ليتجاوز خمسين دولة. وحسب مفهوم العمل التعددي الرائد، تعمل التحالفات معا من أجل التغلب على المشكلات. وهذه الترتيبات تشبه "العمل التعددي البراغماتي" كما يسميه صندوق النقد الدولي، وإن كانت تختلف عنه في مجال التركيز.
ومن الأمثلة الأخرى الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي اتفاق بشأن التجارة الحرة بين 15 دولة يلتزم بإرساء نظام قائم على القواعد. ويضم هذا الاتفاق الاحتوائي، إلى جانب أعضاء رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان)، بلدانا متنوعة سياسيا مثل أستراليا والصين واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية. ورغم انحسار العمل متعدد الأطراف في البلدان الأخرى، تواصل بلدان رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) تعزيزه في إقليم آسيا والمحيط الهادئ.
والآن قد يبدو التعاون الدولي من خلال العمل متعدد الأطراف أمرا بعيد المنال في ظل تلاشي الوفاق، ولا سيما بين الخصوم السياسيين-الجغرافيين. غير أنه يمكن استعادة أفضل ما في النظام الدولي عبر التعاون غير المقصود، والتغلب على معضلة السجين، والعمل التعددي الرائد.
الآراء الواردة في هذه المقالات وغيرها من المواد المنشورة تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا تعكس بالضرورة سياسة صندوق النقد الدولي.